الأحد، 10 أبريل 2016
[فقه الخلاف..وأدب الحوار]
إن روح الحوار الموضوعي الرزين الذي يستهدف الوصول
إلى الحق وليس الانتصار للنفس يحتاج إلى ترسيخ وتدعيم، وهذه
قيمنا الأصولية في الحوار تبرز لنا على يدي رجل من أئمة الفكر
الإسلامي الأصيل.
إن من عقل الشافعي رحمه الله أن يؤصل هذه القاعدة في
فقه الخلاف بين المسلمين.
ومن عقله أيضًا قوله : نظرت إلى العقل فوجدت له حدًا
ينتهي إليه، كما أن للبصر حدًا ينتهي إليه.
من أقواله رحمه الله.
يقول: ما ناظرت أحدًا على الغلبة، ما ناظرته إلا على حق
عندي، ما ناظرته إلا على النصيحة.
فمن يستطيع أن يبلغ هذا المستوى؟ وهذا يذكرنا بما نسب
إليه من قوله : وددت لو أن الخلق تعلموا هذا العلم، وأنه لم
ينسب إلي منه حرف واحد.
إنه يدرك طبيعة النفس البشرية وحظ الإنسان من نفسه،
وأن كثيرًا من الناس يتفاخرون بالعلم كما يتفاخرون بالدنيا
وكما يتفاخرون بالمال .. بالغلبة خصوصًا في ميادين الصراع
والجدل والقيل والقال، ويتكاثرون بالأتباع، ولذلك كان يجهر
ﺑﻬذه الكلمات لتبيين منهجه وطريقته ويربي عليها من حوله .
ويقول أيضًا: ما ناظرت أحدًا إلا تمنيت أن يظهر الله الحق على
لسانه، وما ناظرت أحدًا إلا أحببت أن يوفق ويسدد ويعان
ويكون عليه رعاية من الله تعالى.
هذا هو المستوى الرفيع الراقي الذي ينبغي أن نفاخر به إلى
يوم القيامة، وأن نجعل هذا قدوة لنا أيضًا في أحاديثنا مع الناس
وفي نشرنا للعلم وفي مناظرتنا لمن نختلف معه فلا ننفره وألا
نحشره في زاوية، وألا نعتقد أن التضييق عليه هو الذي يقربه إلى
الحق؛ لأن الهدف من المناظرة الدعوة وليس الانتصار، كما ذكر
عن رجل كا ن يناظر داود الأصفهاني فلما ناظره في مسألة قال :
إن كنت قلت : كذا. فإنك قد كفرت والحمد لله . قال: كيف
تحمد الله على كفر مسلم؟ كان يسعك أن تقول : ولا حول ولا
قوة إلا بالله، أو إنا لله وإنا إليه راجعون . أما الحمد فإنه يدل على
تجدد نعمة حصلت لك فهل تحمد الله على كفر مسلم؟
ولم يكن الشافعي يجزم بصواب رأيه مطلقًا، إنما كان يقول
قولته المشهورة التي أصبحت دستورًا للمتناظرين من الناحية
النظرية، وإن كانت من الناحية العملية أبعد ما تكون عن الواقع،
كان يقول : قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل
الصواب.
هذه حكمة تاريخية يتغنى ﺑﻬا الكثيرون لفظا لكنهم يخالفوﻧﻬا
فعلاً، فيرون قولهم صوابًا لا يحتمل الخطأ ويرون قول غيرهم خطأ
لا يحتمل الصواب.
وقال يونس الصدفي : ما رأيت أعقل من الشافعي، ناظرته
يومًا في مسألة واختلفت معه ثم افترقنا فلقيني من الغد وأخذ
بيدي ثم قال : يا أبا موسى ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم
نتفق في مسألة.
قال الذهبي تعليقًا على ذلك : هذا يدل على كمال عقل
هذا الإمام وفقه نفسه، فما زال النظراء يختلفون
وهذه إحدى المسائل التي استوقفتني في سيرة الشافعي، فإن
قوله للرجل : ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة .
يدل فعلًا على فقه نفسه وسعة عقله ونبله، فإنه يدرك أن الناس
لا يمكن أن يتفقوا في عقولهم ولا في مداركهم ولا في علمهم ولا
في شخصياﺗﻬم فلا يمكن أن يتفقوا على كل شيء، وليس أمامهم
إلا أحد طريقين؛ إما أن يختلفوا اختلافا بعيدًا، وإما أن يضعوا
لأنفسهم قواعد عامة يتفقون على جميعها ويقبلون الخلاف في
جزيئاﺗﻬا وفروعها.
متى يتأدب الصالحون ﺑﻬذا الأدب؟
ومتى تتسع صد ورهم لمن يخالفوﻧﻬم، ويقدمون أصل الأخوة
الإيمانية على طارئ الخلاف الفرعي؟
وهل يمكن أن يتفق الناس؟
وهل يسع من رأى شيئًا غير ما ترى أن يكتم دينه الذي يدين الله
به من أجل خاطرك ؟
وهل يجوز له أن يعصي الله ورسوله ليطيعك ؟
إن كثيرًا من الطلبة إذا اختلفوا مع شخص تنقصوه
وهجروه وربما تمنوا هلاكه، أو أن تنزل به فضيحة في علمه أو
دينه أو في دنياه، حتى يشمتوا به لفرط ما تشربت قلوﺑﻬم من
ذلك .
وهذا من سوء الرأي وضيق الأفق وقلة الدين ، وقد بلغ
الشافعي رحمه الله أن رجلاً كان يدعو عليه في سجوده يقول :
اللهم أمت الشافعي حتى لا يذهب علم مالك رحمه الله.
لأن الشافعي خالف مالكًا في مسائل، وكتب بذلك
كتابًا فقال الشافعي رحمه الله :
تمنى رجال أن أموت وإن أمت **فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى** ﺗﻬيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وقد علموا لو ينفع العلم عندهم **لإن مت ما الداعي علي بمخلدِ
ويقول الشافعي رحمه الله : ما ضحك أحد من خطأ رجل
إلا ثبت صوابه في قلبه.
لقد لاحظت أن الشافعي رحمه الله كان عالمًا خبيرًَا في
النفوس متجردًا لله عز وجل، فهو يشير إلى الطرق والوسائل التي
من شأﻧﻬا أن تجعل الآخر يقبل الحق كما يشير إلى الأسباب التي
تجعلهم يرفضون الحق وينصرفون عنه يقول : إذا ضحكت من
خطأ رجل ثبت صوابه في قلبه، يعني شعر بأنك سخرت منه
وازدريته وتنقصته فصار عنده في داخله تمسك ﺑﻬذا الشيء الذي
قاله وإصرار عليه، وثبت صوابه في قلبه، لقد كان الشافعي خبيرًا
في أدواء النفوس عليمًا في كثير مسارﺑﻬا ومسالكها، وكان يسلك
ذلك لدعوة الناس وإيصال العلم إليهم .
إن روح الحوار الموضوعي الرزين الذي يستهدف الوصول
إلى الحق وليس الانتصار للنفس يحتاج إلى ترسيخ وتدعيم، وهذه
قيمنا الأصولية في الحوار تبرز لنا على يدي رجل من أئمة الفكر
الإسلامي الأصيل ، فهو يرسخ بقوله وبفعله قبل أن يكون الحوار
لغة عالمية تطرح اليوم في اﻟﻤﺠامع العالمية، ونحتاجها نحن المسلمين
أكثر مما يحتاجها غيرنا؛ فنحن لا نملك القوة لكننا نملك الحق .
والحق إنما يظهر من خلال الحوار باللغة الهادئة، والأسلوب الجيد،
والحجة التي تقرع أسماع الناس، فإذا فقدنا الحوار وفقدنا القوة
فماذا بقي لنا؟
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق