محمد رسول الملحمة
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد:
لما سُئلت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق (رضي الله عنها وعن أبيها) عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت "كان خُلقه القرآن" ..
هذه المعجزة الخالدة ، هذا الكتاب العظيم الذي حوى بين دفتيه دستور البشرية المنزل من فوق سبع سموات تجسد في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سيرته ترجمة عملية لكتاب الله ..
إن تطبيق القرآن في واقع حياة الفرد لا بد أن يسبقه دراسة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته والإحاطة بشمائله من جميع جوانبها ومن ثَمّ محاكاة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله القلبية والعملية .
قسّم المؤرخون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلى قسمين ، أو عهدين:
1- العهد المكّي (13 سنة): وهي الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة . 2- والعهد المدني (10 سنوات): وهي الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة إليها.
غلب على العهد المكي ملامح الضعف الحسي الذي تجسد في سطوة قريش على المسلمين وتعذيبهم ، ولكنه في نفس الوقت كان فترة قوة معنوية ، وعملية صقل للنفس وتهذيبها وتعويدها على تحمل المشاق والصعاب في سبيل الدين تجسد في صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش لهم .
أما العهد المدني فكان عهد قطف ثمار العهد المكي .. لقد تربّت النفوس وعرفت قيمة هذا الدين العظيم وغُرس في نفوسها حب التضحية من أجله وتجلّت حكمة الله في الإذن للمؤمنين بالجهاد في سبيله بعد تلك الفترة فكان هذا عليهم أهون بكثير من الصبر على تنكيل قريش بهم في بطحاء مكة.
لقد أعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين لقيادة البشرية فكان لا بد من الصقل والتربية ، ولذلك لم يُشرع الجهاد دفعة واحدة وإنما أتى على مراحل [كما ذكر السرخسي في كتابه "شرح السير الكبير" ، ص 187 – 189] :
المرحلة الأولى: الأمر بتيليغ الرسالة والإعراض عن المشركين ، قال تعالى "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر : 94) ، وَقَالَ تَعَالَى "فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" (الحجر : 85)
المرحلة الثانية: الأمر بالمجادلة بالتي هي أحسن ، قال تعالى "اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل : 125) ، وَقَالَ تعالى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت : 46)
المرحلة الثالثة: الإذن بالقتال ، قال تعالى "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج : 39)
المرحلة الرابعة: الأمر بالقتال إن كانت البداية من الكفار ، قال تعالى "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ..." (الحج : 40) .. الآيات.
المرحلة الخامسة: الأمر بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم ، قال تعالى"فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" (التوبة : 5)
قال الضحاك بن مزاحم عن هذه الآية: أنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد ومدة " .. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية "لم يبق لأحد من المشركين عهد ولاذمة منذ نزلت براءة" . (انظر تفسير ابن كثير لهذه الآية)
المرحلة السادسة: الأمر بالقتال مطلقاً قال تعالى "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة : 244) ، وقوله تعالى "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (التوبة : 5)
واستقر الأمر على القتال المطلق . يقول الحافظ محمد بن أحمد بن محمد جزي الكلي صاحب "تفسير التسهيل لعلوم التنزيل": "ونقد هنا ما جاء من نسخ مسألة الكفار والعفو عنهم والاعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مائة واربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة نسخ ذلك كله بقوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ".
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن حزم [الناسخ والمنسوخ : باب الإعراض عن المشركين] "في مائة أربع عشرة آية ، في ثمان وأربعين سورة ، نسخ الكل بقوله عز وجل "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" .
لما أذن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالقتال بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا والبعثات لغزو الكفار والتضييق على قريش (القوة العظمى في جزيرة العرب) فبث الرعب في أنحاء الجزيرة ، فكانت سيوف أصحابه ترهب الكفار أكثر من سباع الفلاة ، وهذا مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم " .. نصرت بالرعب شهرا أمامي ، و شهرا خلفي ..." (حديث صحيح : صحيح الجامع 4221)
..
إن الذي يقرأ السيرة النبوية - بعد الإذن بالقتال - يجد أن هذه البعثات والسرايا والغزوات قد طغى ذكرها في تلك الفترة على ذكر غيرها من الأمور التي حصلت للمسلمين .. لقد شُرع الجهاد بعد ستة أشهر من الهجرة ، واشترك النبي صلى الله عليه وسلم في 26 غزوة لقي في تسعة منها قتال ، وأرسل 60 بعثة وسرية في تلك السنوات .. أي أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك بنفسه في أكثر من غزوتين في السنة ، أي بمعدل غزوة كل خمسة أشهر ، ولو استثنينا الأشهر الحُرم (أربعة أشهر في السنة) لكان معدل الغزوات النبوية غزوة كل ثلاثة أشهر ونصف في السنة .. ومعدل الغزوات والسرايا الإسلامية في العهد النبوي هو غزوة أو سرية كل شهرين ، ولو استثنينا الأشهرالحُرم يكون المعدل غزوة كل شهر ، وإذا قلنا بأن وقت الغزوة يتراوح بين 15 إلى 20 يوماً في الشهر (ذهاباً وإياباً) ، فيكون الصحابة قد قضوا ثلاثة أرباع حياتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ..
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامرة بالغزو والجهاد في سبيل الله فلا تكاد سرية تقفل من وجهتها ميممة شطر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتودع سرية أُخرى منطلقة بأمر النبي عليه الصلاة والسلام لعملية جهادية .
إن من سنة الله سبحانه وتعالى في رسالاته أنها لا تتمكن إلا بالتضحيات ، ولا ترتفع إلا على سلالم الجماجم والأشلاء .. لقد عاتب اللهُ سبحانه وتعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر لما اتخذ أسرى من المشركين بقوله سبحانه "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .(الأنفال: 67-68) !! كيف يا محمد (صلى الله عليه وسلم) ترضى بأسر الكفار قبل أن تُكثر فيهم القتل ، وتقطّع منهم الأوصال ، وتسفك دماءهم ، وتكسر شوكتهم ، ويظهر الدين ويعلوا فوق سائر الأديان !! كيف تأخذك رأفة بهؤلاء الكفار الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً !!
إنه عتاب شديد من الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم و "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" .. ثم بعد هذا العتاب جعل الله سبحانه وتعالى للإمام الخيار (على رأي جمهور العلماء) في ما يفعل بالأسرى: إن شاء قتل ، وإن شاء فدى ، وإن شاء منّ عليهم ، إن شاء بادلهم بأسرى المسلمين ، أو استرق منهم ، ومرد ذلك للمصلحة العامة .
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية تكاد تكون مجهولة عند كثير من الناس ، فالمناهج الحديثة (المعدّلة) تكاد تُخفي هذا الجانب العظيم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو تُفرغه من محتواه فتذكر الغزوات ليحفظ الطلبة تاريخ وقوعها دون أخذ العبر والعظات منها ..
إن المسلمين يعرفون النبي الحييّ ، الأب العطوف ، الزوج المثالي ، والجار الحنون: يزور الطفل اليهودي إذا مرض ، ويسأل عن جاره اليهودي الذي كان يضع القاذورات في طريقه فيزوره في بيته ، ويدرّس هذا للمسلمين دون بيان كافٍ ، فيتعلمون منه العطف على الكفار دون التمييز بين المحارب والذمّيّ ..
كم من شباب المسلمين سمعوا عن قوة النبي صلى الله عليه وسلم الجسدية وبلاءه في الحروب وشجاعته .. إن هذا الجانب العظيم من السيرة النبوية قد حذف من أكثر المناهج التربوية لحاجة في نفس الكفار فيشب المسلم لا يعرف عن نبيه صلى الله عليه وسلم إلا عطفه وإحسانه على اليهود والنصارى .. لا حب في الله ولا بغض في الله ، ولا ولاء ولا براء ، ولا جهاد في سبيل الله !!
ونذكر هنا بعض هذا الجانب ، جانب القوة والعزة والشجاعة ، حتى يعرف المسلم حقيقة هذا الدين ، وحقيقة هذا النبي العظيم الذي بذل نفسه ودمه في سبيل هذا تبليغ رسالة ربه للناس أجمعين:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: (لم تراعوا ، لم تراعوا). وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج ، في عنقه سيف ، فقال: (لقد وجدته بحراً. أو: إنه لبحر). (متفق عليه)
كان عليه الصلاة والسلام فارساً لا يُشق له غبار ، مقداماً يقتحم الأهوال ، يتقدم أصحابة في المعارك حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (المعروف بقوته وشدته وبأسه في الحروب) "لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا للعدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" !! (حسن ، رواه أحمد)
وهذا رجل من قيس يقول للبراء رضي الله عنه: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟
فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب". (متفق عليه) ..
السماء تهطل بالنبل ، والصناديد قد ولّوا لا يلوون على شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم كالعلم على بغلته لا تستثيره طلقات النبل يهتف في الناس ليُعلَم مكانه !!
إن الحرب إذا التهبت ، والسيوف إذا برقت ، والسهام إذا أمطرت ، والرماح إذا ما بالدماء ارتوت ، ترى الأبطال خلف الدروع وفوق السروج يتّقون النواصل ويحتمون من الأسنّة :
ومعترك تهز به المنايا .... ذكور الهند في أيدي ذكور
لوامع يبصر الأعمى سناها .... ويعمي دونها طرف البصير
وخافقة الذرائب قد أنافت .... على حمراء ذات شباً طرير
تحوم حولها عقبان موت .... تخطفت القلوب من الصدور
بيوم راح في سربال ليل .... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو في قتام .... رنو البكر من بين الستور
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البأسٌ ، وَحَمِىَ الحربُ ، وقصده العدوُّ ، يُعِلمُ بنفسه :
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِب .... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ..
وكأنه يقول لأعداءه: هلمّوا إليّ !! أنا القائد ، أنا من تُريدون .. وكأنه يقول لأصحابه: ها أنا أمامكم ، نحري دون نحركم ، فترجع دماء الأبطال في عروقها ، وتحمرّ الأوداج ، وتُعقر الجياد ، ويعلوا صوت "الله أكبر" يدك رؤوس الطغاة ..
قال البراء: "كنا، والله! إذا احمر البأس نتقي به .. وإن الشجاع منا للذي يحاذى به. يعني النبي صلى الله عليه وسلم" (مسلم) ..
الصحابة الذين داست سنابك خيلهم الدنيا وأركعوا ملوك العرب والفرس والروم والبربر والترك والصين وسائر الأرض ، وأرهبوا العالم بقوتهم وصدق عزائمهم يعجز أحدهم أن يجاري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة !!
لقد عرفنا شدة أسد الله "حمزة" ، وقرأنا عن إقدام سيف الله "خالد" ، وعن بطولات الزبير ، وصولات المقداد بن عمرو ، ولكن أين هؤلاء من شجاعة النبي صلى الله عليه وسلام وإقدامه !! أحدهم لا يستطيع أن يجاري النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة !!
إقدام إذا أحجم الناس ، واقتحام إذا تراخى الناس ، وطِرادٌ إذا فرّ الناس .. يقتل هذا ، ويأمر باغتيال هذا ، وبضرب عنق هذا صبراً ، ويُبيح دم هذا ، ويُغير على هذه القبيلة أو تلك فيهدم حصونها ويحرق نخلها ويقتل رجالها ويسبي نسائها وذراريها ويسوق أموالها فكان ذلك خير معاشه ..
قال: من "لكعب بن الأشرف" (من قادة يهود) يريد اغتياله ، فانتدب له "محمد بن مسلمة" وثلاثة من إخوانه من "الأوس" هو قائدهم فاحتزّوا رأسه وألقوه بين يدي رسول الله فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام وقال "أفلحت الوجوه" ..
غارت الخزرج فاستأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل "سلّام بن أبي الحُقيْق" (من مجرمي اليهود) فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم فانتدب له خمسة من بني سلمة عليهم "عبدالله بن عَتيك" الذي وضع السيف في بطن اليهودي ال**** حتى خرج من ظهره ..
أفلحت الوجوه .. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" ..
ولما دخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً قال له أحدهم بأن "عبدالعزى بن خطَل" (وقد كان أهدر دمه) متعلق بأستار الكعبة فقال "اقتله" ، فقتله .
هكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدينة: قتال وجهاد وفتوحات وإقدام وقتل وأسر ونكاية وإرهاب لأعداء الله وبطولات في ساحات الوغى تعجز الأقلام عن وصفها ..
بعد أن توفى اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجت جيوش الصحابة والتابعين يفتحون البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فكان جل حياتهم جهاد وقتال في سبيل الله وفتوحات أشرقت لها الدنيا وحطموا بها "القوى البشرية العظمى" في الأرض .. لقد كان جل جهاد الصحابة والتابيعين ومن بعدهم من المسلمين من بعد غزوة الأحزاب (الخندق سنة 5 للهجرة) إلى منتصف الخلافة العباسية جهاد طلب لا دفع .. لقد علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم الإقدام في المعارك ، والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل هذا الدين ، فعرفوا أن لا راحة في هذه الدنيا ولكن جهاد وجهاد ، وأنه لا عزة للأمة إلا بالجهاد ، وعرفوا أنه "من لا يغزو يُغز" ..
يقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنه خطيباً في الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه.
تقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة .. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً .. ولذلك كانت وصية أبي بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة ..
وقال شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا .... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ولغيره في هذا المعنى:
محرمة أكفال خيلى على القنا .... ودامية لباتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر .... وتغرق منها في الصدور صدورها
إن الصحابة طراز نادر من الرجال ، قليلي الكلام كثيري الأفعال ، قليلي الجدال:
قال لهم ربهم " وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ" ، فقالوا "لبّيك" ..
قال لهم ربهم "انفروا خفافاً وثقالاً" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم "وقاتلوا في سبيل الله" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم " وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم " فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ " ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" ، فقالوا "ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل" ..
كلما أتاهم أمر من عند الله قالوا "سمعنا وأطعنا" ، ما كانوا يسألون: هل هو فرض كفاية أم فرضع عين !! هل هو سنة أم واجب !! هل هو على الفور أم على التراخي !!
قال لهم ربهم "سارعوا إلى مغفرة من ربكم" فاستطالت نفوسهم الحياة وأخذوا يتسابقوا إلى الموت طمعاً في ما عند الله فيلقي "ابن الحمام" التمرات ويقول "لإن عشت حتى آكلها ، إنها لحياة طويلة" !!
ما كانت تُخيفهم الأهوال ، ولا كانوا يلقون بالاً لعدد العدو والعتاد " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا " (الأحزاب : 22-23)
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء هم أصحابه .. ما كانوا خوّارين ولا متفيقهين ، بل كانوا ملتزمين وقائمين بأوامر الله يجاهدون في سبيله لا يخافون في الله لومة لائم ..
إن القرآن في العهد المدني تجلى في الجهاد الذي ترجمه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزواتهم فما تركوا لمن بعدهم مجال للتأويل أو التحريف ، هكذا فهم الصحابة من بعده القرآن فكانت الفتوحات الإسلامية في طول الأرض وعرضها ..
إن الله سبحانه وتعالى لما قال في كتابه " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " ، لم يكن هذا في إطلاق اللحية وتقصير الثوب والصلاة والصوم فقط ، بل كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم لنا أسوة ، فلما شُرع الجهاد كان أكثر حياته وحياة أصحابه في الإعداد والجهاد ، فيا من يزعم أنه يتّبع النبي صلى الله عليه وسلم: هلا كان لك في رسول الله أسوة ..
--------------------------------------------------------------------------------
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده .. أما بعد:
لما سُئلت أم المؤمنين عائشة بنت الصديق (رضي الله عنها وعن أبيها) عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت "كان خُلقه القرآن" ..
هذه المعجزة الخالدة ، هذا الكتاب العظيم الذي حوى بين دفتيه دستور البشرية المنزل من فوق سبع سموات تجسد في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت سيرته ترجمة عملية لكتاب الله ..
إن تطبيق القرآن في واقع حياة الفرد لا بد أن يسبقه دراسة لحياة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته والإحاطة بشمائله من جميع جوانبها ومن ثَمّ محاكاة أقوال النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله القلبية والعملية .
قسّم المؤرخون سيرة النبي صلى الله عليه وسلم بعد البعثة إلى قسمين ، أو عهدين:
1- العهد المكّي (13 سنة): وهي الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في مكة . 2- والعهد المدني (10 سنوات): وهي الفترة التي قضاها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة إليها.
غلب على العهد المكي ملامح الضعف الحسي الذي تجسد في سطوة قريش على المسلمين وتعذيبهم ، ولكنه في نفس الوقت كان فترة قوة معنوية ، وعملية صقل للنفس وتهذيبها وتعويدها على تحمل المشاق والصعاب في سبيل الدين تجسد في صبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه على أذى قريش لهم .
أما العهد المدني فكان عهد قطف ثمار العهد المكي .. لقد تربّت النفوس وعرفت قيمة هذا الدين العظيم وغُرس في نفوسها حب التضحية من أجله وتجلّت حكمة الله في الإذن للمؤمنين بالجهاد في سبيله بعد تلك الفترة فكان هذا عليهم أهون بكثير من الصبر على تنكيل قريش بهم في بطحاء مكة.
لقد أعد الله سبحانه وتعالى المؤمنين لقيادة البشرية فكان لا بد من الصقل والتربية ، ولذلك لم يُشرع الجهاد دفعة واحدة وإنما أتى على مراحل [كما ذكر السرخسي في كتابه "شرح السير الكبير" ، ص 187 – 189] :
المرحلة الأولى: الأمر بتيليغ الرسالة والإعراض عن المشركين ، قال تعالى "فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرْ وَأَعْرِضْ عَنْ الْمُشْرِكِينَ" (الحجر : 94) ، وَقَالَ تَعَالَى "فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" (الحجر : 85)
المرحلة الثانية: الأمر بالمجادلة بالتي هي أحسن ، قال تعالى "اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّك بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ" (النحل : 125) ، وَقَالَ تعالى "وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ" (العنكبوت : 46)
المرحلة الثالثة: الإذن بالقتال ، قال تعالى "أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا" (الحج : 39)
المرحلة الرابعة: الأمر بالقتال إن كانت البداية من الكفار ، قال تعالى "الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ..." (الحج : 40) .. الآيات.
المرحلة الخامسة: الأمر بالقتال بشرط انسلاخ الأشهر الحرم ، قال تعالى"فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمِ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ" (التوبة : 5)
قال الضحاك بن مزاحم عن هذه الآية: أنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد ومدة " .. وقال العوفي عن ابن عباس في هذه الآية "لم يبق لأحد من المشركين عهد ولاذمة منذ نزلت براءة" . (انظر تفسير ابن كثير لهذه الآية)
المرحلة السادسة: الأمر بالقتال مطلقاً قال تعالى "وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ" (البقرة : 244) ، وقوله تعالى "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " (التوبة : 5)
واستقر الأمر على القتال المطلق . يقول الحافظ محمد بن أحمد بن محمد جزي الكلي صاحب "تفسير التسهيل لعلوم التنزيل": "ونقد هنا ما جاء من نسخ مسألة الكفار والعفو عنهم والاعراض والصبر على أذاهم بالأمر بقتالهم ليغني ذلك عن تكراره في مواضعه فإنه وقع منه في القرآن مائة واربع عشرة آية من أربع وخمسين سورة نسخ ذلك كله بقوله "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ".
وقال الإمام أبو عبد الله محمد بن حزم [الناسخ والمنسوخ : باب الإعراض عن المشركين] "في مائة أربع عشرة آية ، في ثمان وأربعين سورة ، نسخ الكل بقوله عز وجل "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم" .
لما أذن الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالقتال بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بإرسال السرايا والبعثات لغزو الكفار والتضييق على قريش (القوة العظمى في جزيرة العرب) فبث الرعب في أنحاء الجزيرة ، فكانت سيوف أصحابه ترهب الكفار أكثر من سباع الفلاة ، وهذا مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم " .. نصرت بالرعب شهرا أمامي ، و شهرا خلفي ..." (حديث صحيح : صحيح الجامع 4221)
..
إن الذي يقرأ السيرة النبوية - بعد الإذن بالقتال - يجد أن هذه البعثات والسرايا والغزوات قد طغى ذكرها في تلك الفترة على ذكر غيرها من الأمور التي حصلت للمسلمين .. لقد شُرع الجهاد بعد ستة أشهر من الهجرة ، واشترك النبي صلى الله عليه وسلم في 26 غزوة لقي في تسعة منها قتال ، وأرسل 60 بعثة وسرية في تلك السنوات .. أي أن النبي صلى الله عليه وسلم شارك بنفسه في أكثر من غزوتين في السنة ، أي بمعدل غزوة كل خمسة أشهر ، ولو استثنينا الأشهر الحُرم (أربعة أشهر في السنة) لكان معدل الغزوات النبوية غزوة كل ثلاثة أشهر ونصف في السنة .. ومعدل الغزوات والسرايا الإسلامية في العهد النبوي هو غزوة أو سرية كل شهرين ، ولو استثنينا الأشهرالحُرم يكون المعدل غزوة كل شهر ، وإذا قلنا بأن وقت الغزوة يتراوح بين 15 إلى 20 يوماً في الشهر (ذهاباً وإياباً) ، فيكون الصحابة قد قضوا ثلاثة أرباع حياتهم مع النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد ..
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عامرة بالغزو والجهاد في سبيل الله فلا تكاد سرية تقفل من وجهتها ميممة شطر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم إلا وتودع سرية أُخرى منطلقة بأمر النبي عليه الصلاة والسلام لعملية جهادية .
إن من سنة الله سبحانه وتعالى في رسالاته أنها لا تتمكن إلا بالتضحيات ، ولا ترتفع إلا على سلالم الجماجم والأشلاء .. لقد عاتب اللهُ سبحانه وتعالى النبيَّ صلى الله عليه وسلم بعد غزوة بدر لما اتخذ أسرى من المشركين بقوله سبحانه "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة والله عزيز حكيم * لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم .(الأنفال: 67-68) !! كيف يا محمد (صلى الله عليه وسلم) ترضى بأسر الكفار قبل أن تُكثر فيهم القتل ، وتقطّع منهم الأوصال ، وتسفك دماءهم ، وتكسر شوكتهم ، ويظهر الدين ويعلوا فوق سائر الأديان !! كيف تأخذك رأفة بهؤلاء الكفار الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجاً !!
إنه عتاب شديد من الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم و "لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم" .. ثم بعد هذا العتاب جعل الله سبحانه وتعالى للإمام الخيار (على رأي جمهور العلماء) في ما يفعل بالأسرى: إن شاء قتل ، وإن شاء فدى ، وإن شاء منّ عليهم ، إن شاء بادلهم بأسرى المسلمين ، أو استرق منهم ، ومرد ذلك للمصلحة العامة .
إن حياة النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية تكاد تكون مجهولة عند كثير من الناس ، فالمناهج الحديثة (المعدّلة) تكاد تُخفي هذا الجانب العظيم من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أو تُفرغه من محتواه فتذكر الغزوات ليحفظ الطلبة تاريخ وقوعها دون أخذ العبر والعظات منها ..
إن المسلمين يعرفون النبي الحييّ ، الأب العطوف ، الزوج المثالي ، والجار الحنون: يزور الطفل اليهودي إذا مرض ، ويسأل عن جاره اليهودي الذي كان يضع القاذورات في طريقه فيزوره في بيته ، ويدرّس هذا للمسلمين دون بيان كافٍ ، فيتعلمون منه العطف على الكفار دون التمييز بين المحارب والذمّيّ ..
كم من شباب المسلمين سمعوا عن قوة النبي صلى الله عليه وسلم الجسدية وبلاءه في الحروب وشجاعته .. إن هذا الجانب العظيم من السيرة النبوية قد حذف من أكثر المناهج التربوية لحاجة في نفس الكفار فيشب المسلم لا يعرف عن نبيه صلى الله عليه وسلم إلا عطفه وإحسانه على اليهود والنصارى .. لا حب في الله ولا بغض في الله ، ولا ولاء ولا براء ، ولا جهاد في سبيل الله !!
ونذكر هنا بعض هذا الجانب ، جانب القوة والعزة والشجاعة ، حتى يعرف المسلم حقيقة هذا الدين ، وحقيقة هذا النبي العظيم الذي بذل نفسه ودمه في سبيل هذا تبليغ رسالة ربه للناس أجمعين:
عن أنس رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأجود الناس، وأشجع الناس، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة، فانطلق الناس قبل الصوت، فاستقبلهم النبي صلى الله عليه وسلم قد سبق الناس إلى الصوت، وهو يقول: (لم تراعوا ، لم تراعوا). وهو على فرس لأبي طلحة عري ما عليه سرج ، في عنقه سيف ، فقال: (لقد وجدته بحراً. أو: إنه لبحر). (متفق عليه)
كان عليه الصلاة والسلام فارساً لا يُشق له غبار ، مقداماً يقتحم الأهوال ، يتقدم أصحابة في المعارك حتى قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه (المعروف بقوته وشدته وبأسه في الحروب) "لقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا للعدو ، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً" !! (حسن ، رواه أحمد)
وهذا رجل من قيس يقول للبراء رضي الله عنه: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟
فقال: لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كانت هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا، فأكببنا على الغنائم، فاستقبلنا بالسهام، ولقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، وهو يقول: "أنا النبي لا كذب". (متفق عليه) ..
السماء تهطل بالنبل ، والصناديد قد ولّوا لا يلوون على شيء ، والنبي صلى الله عليه وسلم كالعلم على بغلته لا تستثيره طلقات النبل يهتف في الناس ليُعلَم مكانه !!
إن الحرب إذا التهبت ، والسيوف إذا برقت ، والسهام إذا أمطرت ، والرماح إذا ما بالدماء ارتوت ، ترى الأبطال خلف الدروع وفوق السروج يتّقون النواصل ويحتمون من الأسنّة :
ومعترك تهز به المنايا .... ذكور الهند في أيدي ذكور
لوامع يبصر الأعمى سناها .... ويعمي دونها طرف البصير
وخافقة الذرائب قد أنافت .... على حمراء ذات شباً طرير
تحوم حولها عقبان موت .... تخطفت القلوب من الصدور
بيوم راح في سربال ليل .... فما عرف الأصيل من البكور
وعين الشمس ترنو في قتام .... رنو البكر من بين الستور
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتد البأسٌ ، وَحَمِىَ الحربُ ، وقصده العدوُّ ، يُعِلمُ بنفسه :
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِب .... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المُطَّلِبْ ..
وكأنه يقول لأعداءه: هلمّوا إليّ !! أنا القائد ، أنا من تُريدون .. وكأنه يقول لأصحابه: ها أنا أمامكم ، نحري دون نحركم ، فترجع دماء الأبطال في عروقها ، وتحمرّ الأوداج ، وتُعقر الجياد ، ويعلوا صوت "الله أكبر" يدك رؤوس الطغاة ..
قال البراء: "كنا، والله! إذا احمر البأس نتقي به .. وإن الشجاع منا للذي يحاذى به. يعني النبي صلى الله عليه وسلم" (مسلم) ..
الصحابة الذين داست سنابك خيلهم الدنيا وأركعوا ملوك العرب والفرس والروم والبربر والترك والصين وسائر الأرض ، وأرهبوا العالم بقوتهم وصدق عزائمهم يعجز أحدهم أن يجاري رسول الله صلى الله عليه وسلم في المعركة !!
لقد عرفنا شدة أسد الله "حمزة" ، وقرأنا عن إقدام سيف الله "خالد" ، وعن بطولات الزبير ، وصولات المقداد بن عمرو ، ولكن أين هؤلاء من شجاعة النبي صلى الله عليه وسلام وإقدامه !! أحدهم لا يستطيع أن يجاري النبي صلى الله عليه وسلم في المعركة !!
إقدام إذا أحجم الناس ، واقتحام إذا تراخى الناس ، وطِرادٌ إذا فرّ الناس .. يقتل هذا ، ويأمر باغتيال هذا ، وبضرب عنق هذا صبراً ، ويُبيح دم هذا ، ويُغير على هذه القبيلة أو تلك فيهدم حصونها ويحرق نخلها ويقتل رجالها ويسبي نسائها وذراريها ويسوق أموالها فكان ذلك خير معاشه ..
قال: من "لكعب بن الأشرف" (من قادة يهود) يريد اغتياله ، فانتدب له "محمد بن مسلمة" وثلاثة من إخوانه من "الأوس" هو قائدهم فاحتزّوا رأسه وألقوه بين يدي رسول الله فتهلل وجهه عليه الصلاة والسلام وقال "أفلحت الوجوه" ..
غارت الخزرج فاستأذنت الرسول صلى الله عليه وسلم بقتل "سلّام بن أبي الحُقيْق" (من مجرمي اليهود) فأذن النبي صلى الله عليه وسلم لهم فانتدب له خمسة من بني سلمة عليهم "عبدالله بن عَتيك" الذي وضع السيف في بطن اليهودي ال**** حتى خرج من ظهره ..
أفلحت الوجوه .. "وفي ذلك فليتنافس المتنافسون" ..
ولما دخل عليه الصلاة والسلام مكة فاتحاً قال له أحدهم بأن "عبدالعزى بن خطَل" (وقد كان أهدر دمه) متعلق بأستار الكعبة فقال "اقتله" ، فقتله .
هكذا كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في الدينة: قتال وجهاد وفتوحات وإقدام وقتل وأسر ونكاية وإرهاب لأعداء الله وبطولات في ساحات الوغى تعجز الأقلام عن وصفها ..
بعد أن توفى اللهُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم خرجت جيوش الصحابة والتابعين يفتحون البلاد شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً فكان جل حياتهم جهاد وقتال في سبيل الله وفتوحات أشرقت لها الدنيا وحطموا بها "القوى البشرية العظمى" في الأرض .. لقد كان جل جهاد الصحابة والتابيعين ومن بعدهم من المسلمين من بعد غزوة الأحزاب (الخندق سنة 5 للهجرة) إلى منتصف الخلافة العباسية جهاد طلب لا دفع .. لقد علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم الإقدام في المعارك ، والتضحية بالنفس والنفيس في سبيل هذا الدين ، فعرفوا أن لا راحة في هذه الدنيا ولكن جهاد وجهاد ، وأنه لا عزة للأمة إلا بالجهاد ، وعرفوا أنه "من لا يغزو يُغز" ..
يقف عبد الله بن الزبير رضي الله عنه خطيباً في الناس لما بلغه قتل مصعب أخيه فقال: إن يقتل فقد قتل أبوه وأخوه وعمه. إنا والله لا نموت حتفاً ولكن نموت قعصاً بأطراف الرماح وموتاً تحت ظلال السيوف. وإن يقتل مصعب فإن في آل الزبير خلفاً منه.
تقول العرب: إن الشجاعة وقاية والجبن مقتلة .. واعتبر من ذلك أن من يقتل مدبراً أكثر ممن يقتل مقبلاً .. ولذلك كانت وصية أبي بكر رضي الله عنه لخالد بن الوليد: احرص على الموت توهب لك الحياة ..
وقال شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا .... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ولغيره في هذا المعنى:
محرمة أكفال خيلى على القنا .... ودامية لباتها ونحورها
حرام على أرماحنا طعن مدبر .... وتغرق منها في الصدور صدورها
إن الصحابة طراز نادر من الرجال ، قليلي الكلام كثيري الأفعال ، قليلي الجدال:
قال لهم ربهم " وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ" ، فقالوا "لبّيك" ..
قال لهم ربهم "انفروا خفافاً وثقالاً" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم "وقاتلوا في سبيل الله" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم " وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ" ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم " فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ " ، فقالوا "لبيك" ..
قال لهم ربهم "إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ" ، فقالوا "ربح البيع ، لا نقيل ولا نستقيل" ..
كلما أتاهم أمر من عند الله قالوا "سمعنا وأطعنا" ، ما كانوا يسألون: هل هو فرض كفاية أم فرضع عين !! هل هو سنة أم واجب !! هل هو على الفور أم على التراخي !!
قال لهم ربهم "سارعوا إلى مغفرة من ربكم" فاستطالت نفوسهم الحياة وأخذوا يتسابقوا إلى الموت طمعاً في ما عند الله فيلقي "ابن الحمام" التمرات ويقول "لإن عشت حتى آكلها ، إنها لحياة طويلة" !!
ما كانت تُخيفهم الأهوال ، ولا كانوا يلقون بالاً لعدد العدو والعتاد " وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا * مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا " (الأحزاب : 22-23)
هذا هو نبينا صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء هم أصحابه .. ما كانوا خوّارين ولا متفيقهين ، بل كانوا ملتزمين وقائمين بأوامر الله يجاهدون في سبيله لا يخافون في الله لومة لائم ..
إن القرآن في العهد المدني تجلى في الجهاد الذي ترجمه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزواتهم فما تركوا لمن بعدهم مجال للتأويل أو التحريف ، هكذا فهم الصحابة من بعده القرآن فكانت الفتوحات الإسلامية في طول الأرض وعرضها ..
إن الله سبحانه وتعالى لما قال في كتابه " لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ " ، لم يكن هذا في إطلاق اللحية وتقصير الثوب والصلاة والصوم فقط ، بل كل حياة النبي صلى الله عليه وسلم لنا أسوة ، فلما شُرع الجهاد كان أكثر حياته وحياة أصحابه في الإعداد والجهاد ، فيا من يزعم أنه يتّبع النبي صلى الله عليه وسلم: هلا كان لك في رسول الله أسوة ..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق